كانت الطريقة التي لقي بها الصحفي السعودي حتفه في قنصلية بلاده مؤلمة جدا، ليس لزملائه من الصحفيين في العالم فقط بل للعالم أجمع، نهاية مأساوية لا يستحقها أعتى المجرمين في الكون فكيف بصحفي أعزل إلا من قلمه الناقد والطامح لمستقبل أفضل وأكثر إشراقا لبلده التي يحب، يقطع بتلك الطريقة الوحشية.
ورغم هذه المأساة المؤلمة التي تعيدنا إلى سياق التوحش البشري في القرون الوسطى إلا أن على الدول والحكومات، في العالم الثالث بشكل خاص والعربي بشكل أخص، البحث عمّا يمكن أن تتعلمه من مجمل تداعيات القضية وتجلياتها التي صارت حديث العالم تشغله عن كل قضاياه المنغمسة، هي الأخرى، في التوحش البشري والقتل والفتك، وما أكثر الدروس والعبر في هذه القضية التي على دولنا أن تتعظ منها وخاصة في جانب الحريات والجانب الإعلامي بشكل خاص.
وإذا كان السؤال الذي يطرح نفسه علينا اليوم، رغم طراوة القضية وجدتها، كيف سيكون حال الصحافة الخليجية والعربية بعد جريمة قتل خاشقجي؟ هل ستلعب ردود الفعل العالمية القوية والمؤثرة التي تفاجأ بها الجميع دورا إيجابيا نحو انتزاع الصحافة بعضا أو كثيرا من حقوقها ومن حرياتها؟ وهل ستكف الحكومات العربية أذاها عن الصحافة وأساليبها في تكميم الأفواه وتغييب الصحفيين في غيابات الموت والغياب؟ أم أن هذه القضية ستزيد الأمر سوءا وستعمل الحكومات العربية على ابتكار أساليب قمعية أخرى وتعيد هيكلة مؤسساتها كما بدأت تفعل المملكة السعودية وفقا للأمر الملكي الصادر ف سياق اعترافها بارتكاب جريمة القتل في قنصليتها في أسطنبول؟
هذه الأسئلة والكثير غيرها يستحق وقفة تقييمية من قبل الحكومات التي رأت كيف تداعى الغرب بكل مؤسساته الصحفية والبرلمانية ومؤسسات الضغط فيه من أجل نصرة صحفي ربما لم يسمع أغلبهم عنه قبل بدء القضية. صحيح أن صوت جمال الذي يمثل أصواتا كثيرة في العالم العربي يستحق تلك الوقفة وذلك التداعي إلا أن الغرب انتقائي جدا خاصة فيما يتعلق بالعالم الثالث، والعالم تديره قوى خفية أكثر قوة من المؤسسات الحاكمة التي نراها تتحرك وتصدر الأوامر ضربا وزجرا.. ولا يعرف عالمنا الثالث متى يمكن أن يكون موت صحفي أو سجنه قشة يمكن أن تقصم ظهر تسلطه وتكميمه للحريات.
لقد رأينا كيف يمكن لجريمة قتل صحفي أن تهدد دولا كانت آمنة، وأن يصبح اقتصادها عرضة للمساومة والتهديد وربما الانهيار، وملياراتها التي دفعتها في سبيل بناء صورة ذهنية مشرقة وجميلة لا قيمة لها.. كل ذلك دون مقابل، ودون قضية حقيقية، اللهم إلا فهما ملتبسا لمفهوم السلطة، وغياب الرادع القيمي. صحيح أن للقضية أبعاد قد لا يكون جميعها ظاهر في المشهد الآن، ولكن انتقائية الغرب ومصالحه قد تظهر في لحظات لم نحسب لها الحساب، وحين لحظة الحساب تفتح كل الملفات، ونحن دول جبهاتها الداخلية ضعيفة أو تكاد نتيجة الاستخدام الخاطئ للسلطة وتحويلها إلى أداة قمع وترهيب.
لو فكرت دولنا العربية أنها لن تخسر شيئا لو أفسحت لصوت مثقفيها ومفكريها وسمحت للصحافة بمساحاتها في النقد والمراجعة والتقصي، وفكرت في حجم خسارتها عندما تمعن في الإقصاء وفي اخراس الصحفيين والمثقفين ومصادرة أفكارهم لغيرت الكثير من أفكارهم. ألا يكسب الغرب من مساحة الحرية المتاحة في صحافته وعند مفكريه؟ ألا يساهم ذلك في بناء الغرب حضاريا وفي تقوية جبهته الداخلية؟! الإجابة قطعا أن من أسباب تطور الغرب وقوته مساحة الحرية التي يمتلكها مواطنوه ومثقفوه ومفكروه وفنانوه.
ولو تمعنت الدول العربية في هذه القضية ورأت كيف أن قوة الإعلام المهني المتسلح بحريته ومصداقيته قادر على تجييش العالم وصناعة رأي عام حقيقي ومؤثر يكون حائط صد لها لحظة المحن لما تركت الصحافة في العالم العربي تلفظ أنفاسها الأخيرة، ماديا ومهنيا، دون أن تجد حتى من يقرأ على قبرها الفاتحة، كل ذلك لصالح خطابات طائفية ومذهبية متوحشة.
رحم الله جمال خاشقجي ومئات الحصفيين الذين يموتون ويغيّبون كل عام وجعل رماد ذكراهم يشع نورا في هذا العالم عله ينير بصيصا في الطريق.
عاصم الشيدي
كاتب عماني