حُمود الطوقي
بصفتي صحفيًّا، يصعب عليَّ غض الطرف عن هذه المرحلة من عُمر صحافتنا العُمانية، كما يصعُب عليَّ التعاطي مع واقع الحال دون استقراء تفاصيله، خاصة من الناحية المهنية، كوننا ننتمي -بصفتنا صحفيين- إلى عالم الأنماط الصحفية المعروفة في الوسط العالمي، وبالتالي التعامل مع الحقيقة.
ولعلَّ أبرز ما يُمكِن أن يصادفنا في التعامل الصحفي مع الحقيقة هو إدراك طبيعة التوازنات، وهي مجموعة القوانين والأعراف والنُّظم التي تجعل من قطاع معيَّن يعمل وفقاً لها، وهذا ينطبقُ على قطاع الصحافة الورقية؛ لأنه ينطلق ويعمل بناءً على منظومة داخلية، تَضَع في عَيْن الاعتبار أدقَّ التفاصيل، وتتعاطى معها بحرية تدرك معها الطرائق وأشكال الكتابة المرتبطة بها.
ولعلَّ جيل الأوائل من الصحفيين، قد وَعَى مفهوم التوازنات، برقابة ذاتية داخلية؛ فصارت الكتابة لديهم تنتمي لا شعوريا إلى تلك المنظومة؛ إذ لم تكن هناك مُحفِّزات تدعم توجه القفز على التوازنات، أو المجازفة بنسيانها؛ لما يترتب على ذلك من تبعات؛ حيث كانت وظيفة الخطاب الصحفي آنذاك هي الصحافة التنموية.
وفي زمننا الحالي، تداخلتْ وتطوَّرتْ أشكالُ الخطاب الصحفي، مع انفتاح الفضاء الإلكتروني، فأصبحت الصحافة لا تُعطِي اعتباراً لهذه التوازنات، وتنطلقُ من بوابة الحرية المطلقة، وهي حرية غير منطقية ولا موضوعية؛ لأنها حافز صريح للصدام، بينما الخطاب الصحفي يتوخَّى الكشفَ بقصد الإصلاح، وليس الكشف بقصد الصدام. وهنا، يتمُّ اللجوء إلى قراءة الأسلوب المكتوب وليس النوايا، وهو ما يستدعي الالتفات إلى خطورة اللغة؛ باعتبارها المنصَّة الجسرية التعبيرية بين الوسيلة الصحفية والمتلقي.
إنَّ طريقة التعامل مع الحقيقة، ودور الصحافة في التعاطي معها، يُبرِز الجهود التي انتهجتها الزميلة “الزمن”؛ من أجل إبراز الحقيقة وفقا لتصورها.. ونظراً إلى ما آلت إليه الحال، فإنَّ هذا يستدعي منا إعادة النظر في المستوى الصحفي للمؤسسات العُمانية العاملة في هذا القطاع؛ بما يتناسب مع المستقبل، ويجعلنا نتساءل عن الدور الطبيعي للصحافة العمانية، وننظر إلى ما يُنظِّم العملية الصحفية برُمَّتها؛ فقانون المطبوعات والنشر، الذي لا يزال ينتمي زمنيا إلى مرحلة كان ضروريا فيها آنذاك، يُوجِب علينا أن نعترف بأنَّ هذا الوقت الذي نعيشه ليس هو الوقت الذي فات، مما يستدعي إعادة النظر فيه، وتعديله بما يواكب المرحلة الجديدة، ويتماشى مع النظم الجديدة في العالم.
وإذا كان الجيل الجديد من الصحفيين يحتاج للدخول في مرحلة جديدة من الصحافة الورقية، وهي الصحافة الباحثة عن الحقيقة، فلا بد من تهيئة الواقع؛ من خلال قانون يتماشى مع المرحلة الحالية، يصنع منهم مهنيين يبحثون عن المسار الصالح، يساعدون في الإصلاح القيمي والمجتمعي، ويبثون قيم العدالة والشفافية، وهذه تحتاج إلى ضوابط، وهذه الضوابط غير مُتوفرة؛ لأننا ما زلنا نعيش حقبة السبعينيات، رغم أن الوعي تجاوز ذلك، يكفي أن ننظر إلى المنهج الأكاديمي الذي يؤهل الطلاب والطالبات لكي يكونوا ويكنَّ صحفيين وصحفيات؛ لنفهم الفارق الشاسع بين المنهج والقانون الصحفي السائد؛ فلا رابط بينهما أبدا، وهنا مربط الفرس.
فالصحافة، كشف ومكاشفة، هذه هي مهمتها، البحث عن الحقيقة بهدف الإصلاح، ويجب تكريس هذا المبدأ، لأننا نعيش مرحلة فارقة، يُفترض فيها أن نتعلَّم من مُحاكمة الزميلة “الزمن” كدرس، ونرسم من خلال هذه الظروف خارطة طريق لتجويد هذه المهنة المقدسة حتى نخطو خطوات استباقية، لكي نصل إلى فكر جلالة السلطان الذي أراد أن تكون الصحافة العمانية رسول سلام وليس خصام.
فالصحافة يجب أن تمارس دورها في نقل الوقائع.. تنقل الحقيقة من أجل الإصلاح؛ فالصحافة إذا توافرت لها هذه المعطيات ونمت في بيئة تحترم الفكر والرأي حتما ستقود قاطرة التغيير.
ومن المهم أن ندرك أننا أمام خارطة طريق صحفية جديدة، خارطة طريق تتناسب مع المرحلة، يفهم فيها الجميع دوره، ويعي أنه تحت مجهر الصحافة الورقية، فالتغيير ليس مجرد شعار، وليس مقالًا، وليس فكرة عابرة، بل هو جذور تُنشَّأ من خلال الوعي والشفافية؛ من خلال ما نطمح أن نكونه بصفتنا صحفيين، لا بما يُراد لنا أن نكون عليه.
والصحافة، بعد هذه المرحلة، بعد وَضْعها في القفص، يجب أن نؤمن بأنها تمارس شرعيتها، وهي تخطئ وتصيب، تُجازف وتعمل في صمت ودأب، وهي أداة التغيير، وهكذا ينبغي أن تكون، تعمل وفق قانون عملي وواقعي ومنطقي وموضوعي وقانوني.
لقد أوْضَح حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- المنهج الصحفي الذي يُؤمن به ويزكيه ويدعمه. مؤكدا أنَّ الصحافة دورها هو نقل الواقع، سواء كان سلباً أو إيجاباً، على أن يكون الهدف من هذا النقل هو توخِّي الإصلاح، وهذا يعكس رؤية جلالته في الدور الكبير الذي يأمله من الصحافة؛ كون الإصلاح -في جزء من رسالته- هو تنوير والتغيير إلى ما هو أفضل للإنسان والمكان على أرض السلطنة.