د. محمد سيد أحمد متولي
سئل الأديب الأستاذ عباس محمود العقاد رحمه الله في لقاء تلفزيوني شهير أجْرَتْه معه الإعلامية «أماني ناشد» عن السر في أن معظم العباقرة لم يكنْ لأولادهم مواهب، وضَرَبت مثلا على ذلك بأولاد تولستوي وابن فرويد وغيرهم، ولعلها كانت تقصد بسؤالها -ضمنا- الأستاذ العقاد نفسه، لأنه، وهو العبقري، لم ينجب، ولم يكن له ولد! فرد العقاد بأن هذا نوع من القصد الطبيعي، فإذا أُعْطِي الإنسان ملكة يستطيع أن ينفع بها النوع، ففي الغالب لا يحتاج النوع منه إلى ذرية، ولذلك يَكْثُر في العباقرة أنهم لا يُعقبون «لا يُنجبون»، وإذا أعقبوا لا يكون نسلُهُم في طبقتهم من حيث العبقرية والإنتاج والعمل. وضرب العقاد مثلا على ذلك من العباقرة المحدثين جمال الدين الأفغاني فهو لم يتزوج، ومحمد عبده لم يُعقب سوى بنات، وسعد زغلول لم يعقب إطلاقا، وقاسم أمين أعقب بنتا أو بنتين، وكذلك من الأنبياء .. ثم ختم العقاد إجابته بقوله: «هذه قاعدة، ولعلها من القصد الطبيعي أو القصد الإلهي كما ذكرت. ومعناها أن رجلا أُعْطِيَ من الملكات ما يكفي لخدمة النوع من جهات كثيرة، في ضمائرهم وفي عقولهم وفي أخلاقهم، فالنوع بعد ذلك يُعفيه من واجب إعطاء نسل أو ذرية».
والحق أنه يمكن الرد على العقاد في هذا الرأي، بذكر شواهد وأمثلة كثيرة في الشرق والغرب وفي القديم والحديث، تَخْرِم هذه القاعدة وتَحُول دون اطرادها، إذ إننا نجد كثيرا من المبدعين أعقبوا وكان أولادهم في مثل طبقتهم أو ربما تفوقوا عليهم، وثمة أُسَرٌ علمية كثيرة توارثت العلم فيما بينها، وورث أبناؤها العبقرية والنبوغ كابرا عن كابر.
عادتني ذكرى هذا الحوار وتلك الفكرة التي طرحها العقاد حين نزلت أرض عُمان الطيبة، ورحت أزورُ مكتباتها، وأقلب عيني في أغلفة الكتب وأسماء الكتاب والمبدعين فيها، إذ لاحظت دليلا جديدا يدحضُ مذهب العقاد في أن العباقرة لا يُعقبون، وإذا أعقبوا فإن نَسْلهم لا يكون في طبقتهم، أو أنهم قد يُعقبون بنات! إذ رأيت من بين الأسماء الذائعة في ميدان الأدب والنقد والشعر والسرد كاتبات أديبات وناقدات عظيمات، لمعتْ أسماؤهن، وذاعت شهرتُهُن، وكُنَّ جميعا سليلات بيوت علم وفكر وثقافة وأدب في عُمان، وربما ورثن هذه العبقرية عن آبائهن وأهلهن، فرأيت أن أفرد مقالا لرصد هذه الظاهرة، ظاهرة الوراثة الأدبية أو وراثة العبقرية، على جهة التمثيل المُعَبِّر لا على جهة الحصر والاستقصاء الكامل بطبيعة الحال، وقد وقفت في هذا الشأن عند ثلاث مبدعات ورثن العبقرية الأدبية وهن الدكتورة عزيزة الطائي، والدكتورة جوخة الحارثي، والدكتورة منى حبراس السليمي.
فأما الدكتورة عزيزة الطائي فقد تعرفتُ إليها أوَّلَ مرة من خلال انتشار اسمها على أغلفة عدة كتب تفرقت في أرفف إحدى دور النشر في مسقط، ورأيت إنتاجها غزيرا متنوعا متوزعا بين فنون مختلفة، بين النقد الأدبي، واللغة، والإبداع، فرأيت لها روايتين هما «أرض الغياب»، و«أصابع مريم»، ومجموعتين من القصص القصيرة جدا، هما «ظلال العزلة» و«موج خارج البحر»، ولها في النقد الأدبي «السرد في قصيدة النثر العمانية – أشكاله ووظائفه» و«شعر صقر بن سلطان القاسمي – دراسة نقدية» و«الذات في مرآة الكتابة – قراءة في نماذج عمانية معاصرة»، و«كتابات الذات في الأدب العماني الحديث»، «والنص العماني برؤية عربية – دراسات في شعر التفعيلة»، ولها كتاب عن «مهارات التواصل الوظيفي في اللغة العربية».
وكان من أعظم إنتاجها المتنوع هذا كتابها «الخطاب السردي العماني – الأنواع والخصائص (1939 – 2010)»، فهو دراسة شاملة شديدة الثراء والاتساع، لا ينهض بعبئها إلا أولو العزم من الباحثين والنقاد، تناولت فيها الأجناس السردية العمانية كلها: القصة القصيرة، والرواية، والقصة القصيرة جدا، ورواية السيرة الذاتية، وتناولت كذلك السرد الذاتي الواقعي وما يمثله من فنون السيرة الذاتية، وحكايات الطفولة، واليوميات، والمقالات والرسائل الخاصة. وقد رصدت الطائي فيها خصائص الخطاب السردي العماني بأجناسه المختلفة، ووقفت على مظاهر تطور آلياته الكتابية من ناحية الشكل والمضمون، على نحو معجب، وقد أفدت من هذا الكتاب إفادة عظيمة في إعداد المخطط البحثي الذي تقدمت به مع فريق بحثي من جامعة الشرقية عن «موسوعة الرواية العمانية ببليوجرافيا ومداخل نقدية (1939 – 2020م)»، وفاز بتمويل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار.
اقتنيت أغلب هذه الكتب التي أنتجتها عزيزة الطائي ورحتُ أقلب صفحاتها، فوجدت قلما رصينا، وعقلا راشدا مستوعبا دؤوبا مثابرا، يُنبئ عن نفس كبيرة وبناء فكري قوي، فرُحْتُ ألتمس السيرة الذاتية للكاتبة فكانت المفاجأة السارة وهي أن الدكتورة عزيزة الطائي صاحبة هذا الإنتاج العظيم هي ابنة الأديب الشهير عبد الله الطائي، رائد فن القص الحديث في عمان، وصاحب أول رواية عمانية، فهو في عمان بمنزلة محمد حسين هيكل في مصر، فإذا كان هيكل قد كتب رواية «زينب» التي يؤرخ بها لنشأة الرواية العربية، فإن الطائي كتب رواية «ملائكة الجبل الأخضر»، التي يؤرخ بها لنشأة الرواية في عُمان، وله كذلك رواية «الشراع الكبير»، ولا تكاد دراسة تعرض لتاريخ فن القص في عمان إلا واسم الطائي في صدارتها. كما أنه أحد الوجوه المشرقة في صفحة النضال الوطني العماني، وله كتاب «تاريخ عمان السياسي» وكتاب «الأدب المعاصر في الخليج العربي».. وقفت على ذلك فدهشتُ وسعدتُ في آن معا، وعادتني فكرة العقاد تلك، فقلت في نفسي: إننا لا نعرف لمحمد حسين هيكل بنين ولا حفدة، ولكننا نعرف عزيزة الطائي الأديبة الناقدة الكبيرة ابنة الأديب الكبير عبد الله الطائي.
وأما واسطة العقد، ودرة تاج الأدب في عمان، فهي الدكتورة جوخة الحارثي، التي عرفتها، كما عرفها العالم كله، إثر فوز الترجمة الإنجليزية لرواياتها «سيدات القمر» بجائزة مان بوكر العالمية. فقد حققت بذلك شهرة عظيمة للأدب العماني، وحملته دفعة واحدة، من ضيق المحلية إلى رحابة العالمية. فالحق أننا وإن كنا في زمن الراوية، وأن الرواية تحتل مكانة كبيرة في الأقطار العربية كلها، فإن الرواية العمانية كانت تعيش في منطقة الظل، ولم تحقق من الشهرة والذيوع بعض ما تَحَقَّق لنظيراتها في البلاد العربية الأخرى. وقد كثرت -في هذا المضمار- المقالات والأسئلة المُسْتَنْكِرة عن الرواية العمانية التي ضلت سبيلها إلى العالمية، وضعف حضورها في الساحة العربية؛ فجاء فوز الحارثي بجائزة مان بوكر للرواية كأنه فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، إذ نقل الرواية العمانية والأدب العماني كله من ضيق المحلية إلى سعة العالمية ورحابتها.
ولا شك في أن فوز جوخة الحارثي بهذه الجائزة في عام 2019م، وفوزها كذلك بجائزة الأدب العربي في فرنسا لعام 2021م، لم يأتيا من فراغ، ذلك أن إبداعها السردي المتفرد هو ابن هذه البيئة الثقافية العمانية الخصبة الثرية، التي طال غياب الأضواء عنها، ومن الطريف الذي يُذكر في هذا السياق أنه حينما تحدثت جوخة الحارثي في حوار معها في حفل تكريمها في فرنسا عن الحضور الخجول، أو المعدوم، للأدب العُماني على عكس الآداب العربية الأخرى الآتية من لبنان ومصر والعراق بخاصة؛ علّق محاورها الفرنسي يقول: «ولكن هذه الحال لن تستمرَّ بعدك». فما الذي دفع بخوجة الحارثي إلى هذه المكانة العالية المستحقة؟!
لا شك في أن البيئة الثقافية والأسرة ومرحلة التكوين بخاصة لها دور كبير في هذا؛ فإذا كان نجيب محفوظ قال في خطابه يوم الحصول على نوبل: إن مندوب جريدة أجنبية في القاهرة أخبره أن لحظة إعلان اسمه مقرونا بالجائزة ساد الصمت وتساءل كثيرون عمن يكون. وعلق محفوظ يقول: «اسمحوا لي أن أقدم لكم نفسي بالموضوعية التي تتيحها الطبيعة البشرية. أنا ابن حضارتين تزاوجتا في عصر من عصور التاريخ زواجا موفقا. أولاهما عمرها سبعة آلاف سنة، وهي الحضارة الفرعونية، وثانيتهما عمرها ألف وأربعمائة سنة، وهي الحضارة الإسلامية». فلا أستبعد أن تكون لحظة صمت كهذه قد سادت حين أعلن اسم جوخة الحارثي مقرونا بجائزة مان بوكر العالمية في الرواية، وتساءل كثيرون عمن تكون، وحق لجوخة الحارثي أن تجيب إجابة تشبه إجابة نجيب محفوظ، تؤكد فيها أنها ابنة هذه الحضارة العمانية الأصيلة، وأنها ابنة هذا التراث من السرد والقص، وأنها حفيدة الخليل بن أحمد اللغوي وابن دريد رائد فن القصة العربية، وهي حفيدة معاصرين معروفين بالشعر الأدب.
وقد أكدت الأديبة جوخة الحارثي هذه الحقيقة بالفعل في بعض الندوات التكريمية التي عُقدت لها بعد الفوز، حين أشارت إلى «البئر الأولى» على حد تعبير جبرا إبراهيم جبرا، أو إلى مرحلة الطفولة والتكوين، إلى ذلك المعين الأول الذي نهلت منه؛ فقالت إنها آمنت منذ صغرها بسحر اللغة، وأنها كانت محاطة باللغة حيثما كانت، ولم تكن تدرك أن هذا الأمر استثناءٌ حظيت به، فقد كانت تظن أن كل البيوت فيها مكتبة كبيرة مليئة بالكتب الكلاسيكية كتلك التي كانت في بيت والدها، أو مكتبة مليئة بالروايات كتلك التي في بيت عمها، وأختها الكبرى، أو أن كل الناس عندهم أمٌّ -وهي تمارس أعمال المنزل- تتغنى بشعر المتنبي، وامرئ القيس، ونزار قباني، وعمر بن أبي ربيعة. وأن من الطبيعي جدا أنها حين تزور جدها فتسأله الأسئلة العادية التي يسأل الناس بها بعضهم بعضا: كيف حالك؟ فيرد الجد بقول المتنبي: (رماني الدهر بالأرْزاء حتى ** فؤادي في غشاء من نبال). ثم تعلق فتقول: ظننت أن هذا الرجل لا يتكلم الكلام العادي الذي نتحدثه، لأنني أراه طول الوقت يتكلم شعرا! وظننت كذلك أنه شيء عادي أن خالي محمد الحارثي -رحمه الله- الرَّحَّالة والشاعر، يأتي إلى بيتنا فيناقش أمي في أحدث ما طبعته المطابع في بيروت والقاهرة، وأنه شيء طبيعي أن أخي الأكبر يفتح لي مكتبته ويقول لي: اقرئي الأعمال الكاملة لطه حسين وأنا صغيرة جدا في ذلك الوقت. وتؤكد الحارثي أنه تكوَّن عندها بذلك خلفية ثقافية كلاسيكية غنية؛ لأن أمها كذلك كانت مولعة بكتاب الأغاني وكتاب العقد الفريد، فاطلعتْ على هذه الكتب في سن مبكرة جدا وقرأتها بنهم شديد وكان لهذا كله دور عظيم في تكوينها. ولم يكن عجبا أن تكون ابنة هذه الأسرة الأدبية العريقة الحافلة بالشخصيات العظيمة هي جوخة الحارثي التي حملت الأدب العماني إلى آفاق العالمية.
وأما ثالثة الجواهر العمانية في هذا العقد النظيم فهي الناقدة الأديبة الدكتورة منى حبراس السليمي، وقد تعرفتُ إليها أول مرة من خلال كتابها «الطبيعة في الرواية العمانية»، الذي كان في الأصل رسالتها للماجستير في جامعة السلطان قابوس عام 2011م، والحق أن هذا الكتاب لم يتسم بما تتسم به رسائل الماجستير بعامة من ملامح البدايات، فقد جاءت المعالجة النقديةُ فيه ناضجةً نضجا مُعْجبًا على مستوى اللغة والفكر جميعا. وقد تابعتُ مقالاتها النقدية على صفحات الملاحق الثقافية في الصحف العمانية، فوجدت القلمَ النقديَّ الرصينَ ذاته الذي يرفده ذلك العقل القوي. وقد تأكدت لي قوة هذا العقل ورجاحَتُه وحصافتُه عندما بدأت أتابع برنامجها الأسبوعي «المشهد الثقافي» الذي تقدمه على إذاعة سلطنة عمان، ترصد فيه الأحداث الثقافية البارزة في عمان، وتستضيف شخصياتها وتعلق عليها، فوجدت فيها قدرة عظيمة على إدارة الحوار في ذكاء ووفرة عقل وثراء معرفي عظيم. ثم تبينت أن والدها هو الشاعر حبراس بن شبيط بن لافي السليمي أحد وجوه الشعر الخليلي البارزة في عمان، وصاحب ديوان «فيض الإحساس» الذي طالت ملازمته شاعرَ عمان الكبير عبد الله الخليلي في مجلسه، فتأثر به تأثرا كبيرا في معجمه الشعري، وكانت له قدرة عظيمة على الإنشاد. فكانت الدكتورة منى حبراس السليمي الإذاعية الناقدة الأديبة ابنةَ الشاعر الأديب.
لقد حاولت تأمل حال هذه النماذج المتفردة من المبدعات في عمان، في تلك الإلماحة السريعة، ولا شك في أن هناك غيرهن كثيرين وكثيرات، ممن يضيق المقام عن تفصيل القول في إنتاجهم الأدبي، ودورهم في إثراء الحياة الثقافية في عمان، من وجوه الشعراء والكتَّاب الذين يثبتون عكس الرؤية التي رآها الأستاذ العقاد، ويؤكدون أن العباقرة يُعقبون، وأن الأبناء قد يتفوقون على الآباء، وأن الفرع هو الأصل وزيادة.