د.سعدون بن حسين الحمداني
دبلوماسي سابق – كلية عُمان للإدارة والتكنولوجيا
إن الذوق الرفيع للمغفور له جلالة السلطان قابوس بن سعيد “طيب الله ثراه” يحتاج ليس مجلداً واحداً فقط بل لمجلدات لبيان وشرح فن الدبلوماسية الراقي لباني السلطنة الحبيبة منذ سبعينات القرن الماضي، إنه مدرسة بكل معاني الكلمة ؛ فهو ابن سلاطين ، ومن أصائل القبائل العربية المعروفة عبر التاريخ ، بالإضافة إلى أنه خريج أكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية في بريطانيا في ستينات القرن الماضي حيث كان من المتميزين والحريصين على تعلم كل شي جديد من المدرسة الإنجليزية ليس فنون وإدارة الحرب فقط ، وهو من هواة القراءة والمطالعة بشكل مستمر لجميع العلوم لأنه كان يعتبرها روح الحياة.
المغفور له بإذن الله سلطان القلوب وضع اللبنة الأساسية للمدرسة الدبلوماسية القابوسية خلال الخمسين سنة الماضية في كل تفاصيل البروتوكول والإتيكيت ، وإنني أسميتها المدرسة القابوسية نسبة له ، ولتكون مرجعاً رصيناً للمختصّين في فن البروتوكول والإتيكيت.
في هذا المقال سوف لا نتكلم عن السياسة الخارجية أو الداخلية التي مرت على السلطنة والأحداث الساخنة ، وكيف قاد دفة الحكم رغم الأعاصير والعواصف التي تهب على المنطقة الدولية بصورة عامة والمنطقة الإقليمية بصورة خاصة ، والتهديدات من هنا وهناك في القرن الماضي ؛ حيث أوصل سفينة عُمان وأهلها الى بر الأمان بكل حرفية وحنكة دبلوماسية قلت مثيلتها في العالم والتي تميزت بالحيادية والتأني والحكمة وعدم الانصياع إلى الاندفاع في اتخاذ القرارات المصيرية ، وإنه قد بنى العُماني الراقي بمدنيّته وحداثته ؛ مستنداً الى الإرث والتاريخ العُماني العريق الذي يمتد ليس لمئات السنيين بل لملايين السنيين.
نتطرق اليوم الى البرتوكول والإتيكيت الراقي بكل معان السُّمُوِّ والحداثة ، وأنا أكتب هذه الكلمات تراودني صورة والدنا المغفور له جلالة السلطان قابوس “طيب الله ثراه” وفراقه جرح في القلب لا يندمل ؛ إنه في قلوب كل الشرفاء في العالم وليس في عُمان فقط ، إنه رجل الإتيكيت الأول ، ويبقى مصدراً ومرجعاً رحمه الله لكل المختصّين في المجال الدبلوماسي “البروتوكول والإتيكيت” ، وخاصة في الثلاثين سنة الماضية.
نتكلم اليوم في هذا المقال عن طبيعة المباني الحكومية واختيار التصاميم حيث كان يشرف ويعطي توجيهاته في أصغر الأشياء ، وكما يقولون ختامها مسك حيث كانت لمساته الجميلة والفنية الراقية واضحة جداً في دار الأوبرا السلطانية بجميع أروقتها إبتداءً من المخططات الأولية للمكتب الاستشاري ، واختيار المكان والأثاث حتى أنواع الخشب المرصوف في السقوف ، ومن نقوش وأشكال تراثية عمانية عريقة كان هو الذي يختارها بنفسه ، ويدقّق على العمل مع كبار المهندسين الاستشاريّين ومع المقاول المنفذ للمشروع ؛ حرصاً منه على جمالية الفكرة ، ولكي تبقى عبر السنيين تحفة معمارية ومفخرة لكل العمانيين والعرب.
وإذا تكلمنا عن المنشآت السلطانية والقصور ؛ فكان المغفور له قد بنى درراً من التحف العمانية العمرانية الحديثة التي أوضحت للعالم عمق الإرث العماني العريق ، وأدخل الموروث الإسلامي في أغلب مباني القصور ؛ فكان قصر الشموخ يتكون من عدة قلاع عمانية وبهيئة واحدة ضمن لمسة عصرية تبهر الناظرين ، ولمساته الفنية الجميلة التي تعكس روحه الطيبة وذوقه الرفيع في دمج بين الحداثة المعمارية وبين موروث الحضارة العمانية القديمة.
أما قصر العلم وقصر الضيافة بمسقط حيث أمر أن يكون القار أحمر في الشوارع الداخلية كعلامة مميزة له ، فكان في غاية الرقي العمراني رغم صغر المساحة المحصورة بين الجبال الرخامية والبحر. فترى القاعات الداخلية المكسوة بالرخام والجرانيت ذات اللون الأبيض والخشب البُنّي الفاتح والأقواس التي أضافت جمالية ومساحة أكبر للناظر حتى أنه (رحمه الله) كان يدقّق ويشرف على الخرائط وألوان الجدران والحدائق والشبابيك (النوفذ) والأبواب والستائر والأرضيات والأسقف.
أما مبنى مجلسي الدولة والشورى فكان في غاية الروعة ، متجانساً مع معالم السلطنة التاريخية ، اللون الأبيض يغطي على كل مفردات المبنى ، وهي تحفة معمارية متكاملة ولم يقتصر اللون الابيض على مباني الدولة ، بل منذ بداية عصر النهضة كانت هناك أوامر وتوجيهات المغفور له بإذن الله بأن تكون العاصمة الحبيبة مسقط تتوشح باللون الأبيض ومشتقاته ليعطي هوية متميزة للعاصمة الفتية ؛ حيث المنازل والفلل والعمارات وجميع المباني ترتدي هذا اللون الجميل الهادئ ؛ حتى أني سمعت كثيراً من زملائي الدبلوماسيّين يقولون نحن نسكن في مسقط البيضاء لكون جميع ولايات المحافظة بهذا اللون الذي يعبر عن روح وأمل الحياة.
كان (رحمه الله) يشرف على تصاميم العاصمة منذ بداية السبعينات مع الاستشاريّين ، ويدقّق في التفاصيل العلمية الهندسية من حيث عرض الشارع والأكتاف وتقسيمات المناطق السكنية ، حيث كان الحي الدبلوماسي وأمامه حي الوزارات في غاية الترتيب وكذلك المدارس الثانوية والابتدائية التي كانت بنسق وبلون واحد لا غير، وضمن زيارته وتحركاته بالمواكب السلطانية السامية على سبيل المثال من السيب إلى مسقط كان يقف ويعطي أوامره السامية بمواصفات خاصة للطرقات وأبعادها ، وبعدها بفترة يدقق على ما تم إنجازه ويحاسب بشدة في أي تقصير يتم ، ويشرف بشكل مباشر على كل مفردات الشوارع والإنارة والاكتاف ، إنه فعلاً مهندس وباني نهضة عُمان الحديثة قلّما نجد حاكماً بنىَ بلده بفترة زمنية قياسية لتنافس كثيراً من العواصم العريقة ، لأننا إذ بمعالم السلطنة قبل تولّيه الحكم ؛ فإننا لم نجد أي معالم للمدنية الحديثة المعاصرة.
إن المغفور له أفنى شبابه وكل عمره وشابت لحيته من أجل شعبه وتراب عُمان ، ومنا له الوفاء بالدعاء الى الباري عز وجل بأن يسكنه فَسيح جناته مع النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين لما عمل لشعبه ولبلده ، والدعاء بالعون والتوفيق والسداد موصول لمولانا جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم “حفظه الله ورعاه” الذي يسير على نفس النهج ؛ ليجدد ويبحر بالاقتصاد العماني لغرض رفاهية وسعادة الشعب والتطور عبر تحقيق رؤية عمان 2040.
أمّا بروتوكول وإتيكيت استقبال كبار الشخصيات واختيار الألوان في الملابس والهدايا فسوف نتطرق إليها بالمقال القادم إن شاء الله.